
تبدأ القصة عادة بعد “قرعة الحجاج” بسؤال معروف، ثم يتكرر السؤال نفسه يومياً أينما ذهبت وأينما وليت وجهك وحيثما كنت وحللت، فإنك ستتعود تلقائياً ومن غير وعي على سماع اللازمة الليبية المشهورة التي تقول : ”كم مازال على رمضان؟”
تقول الحكاية أن السؤال ينطلق من أفواه “المعاكيس”، الذين يملكون كالعادة الجواب، والذين يمكنهم بحسبة بسيطة وبإستخدام أصابع اليد الواحدة أن يحددوا الليلة الأخيرة التي سيستعدون بعدها لإستقبال الشهر الفضيل.
وطبقاً للرواية المتواترة، فإن “الصالحين” من أخوتنا “الرياس” الليبيين أتفقوا من زمان بعيد على تسمية هذه الليلة “بالشعبانية”، التي يتخلص فيها المرؤ الليبي المسلم من “القرابة” والدموع وقليلاً من الذنوب.
تنقضي “الشعبانية”، فيبدأ السؤال في الإنتشار، ويكون للسؤال عند “رفيقتك” المصون صيغة أخرى فتقول: “رمضان السنة هذي قالوا كامل ! يعني إيدك على ألف جنيه، ثلاثين جنيه في اليوم” ثم تستطرد فتقول: ”هضا غير وكالك أنت وفروخك.....شن رأيك؟”.
تمضي بدون أن تنبس ببنت شفه بعد أن تقتنع أنك لا محالة ستخسر المعركة الثلاثين بعدد شهور رمضان التي قضيتها مع نصفك الآخر، تنفث همك دخاناً مستعاراً وتتساءل بحرقة في قرارة نفسك، لماذا لا يصفد نصفك الآخر مع الشياطين في رمضان؟ لا تجد جواباً مقنعاً من "فقي" جامعكم.
ثم يبدأ الجزء الثاني من السؤال، “زعمك نصيموا مع السعودية؟ “ وتستعر معارك الحسابات الفلكية ورؤيا الهلال فلا تجد مناصاً من المشاهدة والإنتظار حتى يحل رمضان!!
نفس رسائل التهنئة تأتيك ألف مرة على “الموبايل” ويغطيك سيل التبريكات والدعوات على صفحات “الفيسبوك” وبإجماع غريب، يحفظ الليبيون والليبيات عن ظهر قلب ولمدة شهر كامل، مواعيد أذاني المغرب والفجر!
حينها تبدأ بورصة “الفندق” في الإرتفاع، ويشرع التجار في التقرب إلى الله بتفريغ (الجيوب)، يسارع “الزيت والطماطم والسكر” في الاختفاء ويتجاوز “المعدنوس والكسبر” في الأيام الأولى سعر برميل خام “برنت” وتنقلب نصف المحلات في شارعك إلى دكاكين “سفنز وزلابية” ويكثر “الذبان الخضر”!
يزدهر سوق “البدالي العربية” وتغص المساجد بالمصلين في التراويح في أول ليلة، تبدأ معارك “تطفاية المكيف والضي” ويعبق المسجد بالبخور و”تقريعة” المحشي.
يقول لك جارك في ثاني ليلة من رمضان بعد خروجك من التراويح: “الهلال كبير شوف علي اليمين صيامنا غلط معايا وإلا لا؟” جزءاً آخر من السؤال !
وتلتزم المحطات المحلية ببث ذات البرامج التي تبثها في كل رمضان، ويخرج النقيب “النفاثي” ليطلب من المواطنين التقيد بحزام الأمان وإحترام شارات المرور في الشهر الكريم، بينما تحذر الدكتورة “سهام” من “الشربة” وتنصح ربات البيوت بالإبتعاد عن “المصير” والإستعاضة عنه “بالأفوكادو”!!!
تتذكر الإذاعة “محمد صدقي” وموشحات “الناقشبندي” و”المنفرجة” تخرج نفس الوجوه ونفس الضيوف، نفس السؤال لفضيلة الشيخ (والنبي ياسي الشيخ، الحقنة تسمع فيا آلو الحقنة اللي في التواني تفطر وإلا لا؟).
بينما تعتريك كل أوجه الدهشة حينما تستمع إلى (الحمام النيسي) يسألن بغنج ودلال وبكل جرأة عما إذا كان صومهن “مزبوط وعادي” بعد سماع نفس السؤال: “آآآآآلو مساء الخير يا شيخ أمس يا فضيلة الشيخ زوجي عرفت يا سي الشيخ أمس ونحنا صايمين زوجي داعبني و ” ولا تمللك إلا أن تتنفس الصعداء وتحمد الله أن الخط “إنقطع” ولا تجد بُداً من أن تشفق على الشيخ الذي تسمعه يقول: “لا حول و لا قوة إلا بالله حداشن شهر، شهر ينطح شهر خلاص ما حرنت إلا في نهار رمضان يا عليك بروع صبايا، عطينا مكالمة أخرى يا راجل باين عليه نهار شروندي صحيح” !
ثم تبدأ روايات الموتى، غرقى “الشابي والمنقار” حوادث “طريق الساحل” شهداء “اللبن وخبزة "التنور" وضحايا “سوق الحوت” و"الفندق" تتكرر نغمة (تعال بعد العيد !) في دواوين الحكومة والمؤسسات وتطالعك ملصقات (العُمرة) وتخفيضات رحلات "المغرب" و"بولندا"!
لا تلبث أن تستمع إلى من حولك في دوريات “الستاك” يقولون لك (رمضان عدى يا راجل ! بكرا الجمعة اليتيمة) ثم بالكاد تجد مكاناً في المسجد ليلة “سبعة وعشرين” وتخرج من الصلاة، ليزف إليك جارك البشرى، فيؤكد لك أن ذنوبك “إنغسلن كلهن”، ويحلف لك أن الليلة هي “ليلة القدر” ويستدل بكل ثقة، على أن النسمة “بحري” وخفيفة و”تقريعة الشابي” يمكنك أن تشمها من عند “قمينس”!!
تتناقص صفوف التراويح ويبقى الصف الأمامي صامداً…
يسارع أخوتك الليبيين في تمرير جزءاً آخر من السؤال، فيقول لك أحدهم بقليل من البراءة:”إن شاء الله غير ختمت القرآن؟ أنا قاعد في الختمة الخامسة نبيها على روح جتي رجعة!!” تضطر أن تهز رأسك موافقاً بعد الترحم على جدته ،بينما تمضي في لعبة هز الرأس عندما يتكفل صديقاً آخر بسؤالك: “طلعت الفطرة وإلا مازال؟”، ولا تجد بُداً من هزه مرة أخرى حين ينهرك آمراً بأن تزيد في قيمة زكاة الفطر ولا تكون “جلدة وقرقاض”!!
يستمر المشوار للسؤال الأخير لتكتمل اللعبة “قالوا العيد الخميس” تصرخ حرمك المصون في وجهك وتأمرك ككل رواياتها إلى تكملة “التفصيل للفروخ”، وتستعد آخر الجنيهات التي في جيبك للرحيل.
تبدأ الشياطين في فك “السلاسل”، ثم تشرع في طبخ “القرابة” وإستقبال الطلبات، في الوقت الذي تجهز نفسك للإجابة عن طرف آخر من السؤال: “ والنبي ماعندكش خيمة؟”.
تتجاهل فخاً آخر من مصائد زوجتك المصون حين تنظر إليك بنصف عين قائلة : “نشهد بالله إن الصالون والستائر شكلهن يحشم مش مفروض نغيروهن؟ تمضي منسحباً بأقل الخسائر ولا تلقي بالاً لسيل الدعوات التي ترسلها عليك في العشر الأواخر!
تتغير دكاكين “السفنز” إلى بيع “القازوزة” ويتغير السؤال قليلاً: “زعمك نعيدوا مع السعودية؟” تنتشر الفتاوى المتعلقة برؤية “هلال شوال”، تعلن الإفتاء عن ثبوت رؤية هلال شوال في السعودية فتثبت الرؤية عندنا.
وتتأكد بالفعل أن العيد جاء، حينما تسمع أغنية (معيدين وديما عيد) المقررة في كل محطات التلفزيون والراديو.
ترحل "الشربة"، وتحل طبيخة "البطاطا" والفاصوليا" في كل بيت
وتستمر الحكاية !
هكذا كانت القصة، وهكذا كان سؤالنا، من كل جوانبه التي أحببناها وتبرمنا منها في نفس الوقت.
هكذا كان سؤالك، وسؤالي، وسؤال أهلي وأهلك الذي لم يكن ليهفت فتيله مطلقاً، سؤالنا الذي كان يجوب المدينة وأطرافها كل عام، سؤالنا الذي لم نكن نمله ولم نسأم من تكراره أبداً!
واليوم يأتي زماننا هذا …فتختفي عنك الأجوبة التي كنت تحفظها عن ظهر قلب ، وتحتجب عنك الديار والأماكن والدروب والأزقة!
يأتي يومنا هذا، فتأفل عنك كل الوجوه التي تعرفها.
يأتي يومنا هذا، فلا ترى المدينة وأهلها.
يأتي يومنا هذا ، فيتحجر الدمع في كل المآقي.
يأتي يومنا هذا، فينتصب أمامك سؤالاً آخر، مخيف جداً ليقول لك: أين قصتكم التي أحببتموها وأين سؤالكم المعروف؟
ستسمع جواباً يأتيك صداه ليخبرك بليبية أهلي وأهلك فيقول:
"عدّى مول الدور أسفّى .. ناقش كفا .. بيت أجواد الباغي لفا".