
في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كان المناخ الثقافي متميزاً في مدينة بنغازي، بسبب إنتشارالمكتبات الحكومية أو العامة، والمكتبات المدرسية، وكان هناك المكتبة المتجولة في شوارع مدينة بنغازى بالكامل، تبيع الكتب بأسعار زهيدة جداً لتشجيع الناس على شراءها، والإقبال عليها كان منقطع النظير، وكانت هناك أيضاً مراكز ثقافية، مثل المعهد البريطاني، والمعهد الامريكي، والمركز الثقافي المصري، كانت هناك مكتبة الأندلس الشهيرة في منطقة البركة، ومكتبة قورينا في شارع عمر المختار مقابل البريد، ومكتبة متخصصة في الكتب والمجلات الأجنبية بشارع مصراتة، ومكتبة وقرطاسية عوض زاقوب، وتبعتهم مكتبة (دار الكتاب الليبي) لصاحبها حسن الخراز في شارع العقيب.
كانت هناك المكتبة العامة، مقابل البريد الرئيسي، ومكتبة عامة أخرى بالقرب من مبنى الجوازات، ومكتبة عامة في منطقة البركة، ومكتبة المركز الثقافي المصري، حيث أتيح لأبناء جيلنا فرصة الإطلاع وإمكانية إستعارة الكتب من هذه المكتبات، وكان هناك أقدم المكتبات في بنغازي وهي (مكتبة بوقعيقيص) التي تأسست عام 1920 عن طريق الأخوين عمر ومحمد بوقعيقيص، وكان مقرها في ميدان الحدادة، وهو الميدان الذي يربط بين سوق الظلام وميدان البلدية غرباً، وسوق الجريد شرقاً، وأصبحت من العلامات البارزة في الميدان، وتعتبر من أوائل المكتبات في مدينة بنغازي، وتخصصت في بيع المجلات والصحف، وكانت أشبه بمركز ثقافي ومنتدى يقصده المثقفون للتزود بالمعرفة من الكتب والصحف والمجلات العربية.
وواصلت مكتبة بوقعيقيص مهمتها، وكانت تزود المناطق القريبة من بنغازي بحاجتها من المجلات والكتب، حتى أواخر الخمسينيات، حيث تراجع دورها وأهملت، وأصبحت تقتصر على بيع الأدوات القرطاسية فقط، وفي عام 1957 تنازل عنها آل بوقعيقيص للأخ/ علي فرج الخفيفي والذى كان يعمل بالمكتبة مع الأخوين بوقعيقيص، قام المرحوم علي الخفيفي بتغيير اسم المكتبة وأصبحت تعرف باسم "المكتبة الوطنية" وتوسعت المكتبة في أنشطتها، ودخلت مجال النشر والطبع والتوزيع، وإنحسر نشاطها في مجال بيع الصحف والمجلات، في تلك الأجواء ظهرت للوجود مكتبة الوحدة العربية لصاحبها الشعالي الخراز في بنغازي، ولي مع هذه المكتبة قصة، أحب أن أرويها:
وأنا في العاشرة من عمري تقريباً، عملت في العطلات الصيفية أسوة بأقراني في مكتبة الوحدة العربية لصاحبها الشعالي الخراز، وهي تقع على بعد خمس شوارع من شارعنا العقيب، الطريق إلى هناك أمر بشارع عمر بن العاص وعلى يميني ويساري محلات تجارية بنشاطات مختلفة وأشجار مضللة على جانبي الطريق، وفي هذه المكتبة تعرفت على الشهيد ناجي بوحوية الذي عمل هو كذلك في المكتبة وكان يسكن في نفس الشارع (شارع سنيدل).
كان الشعالي الخراز رجلاً عصامياً مكافحاً عمل في البداية في قهوة محمد العاشق، ثم كموظف في المركز الثقافي المصري، ثم فتح المكتبة التي ساهمت دون شك في إثراء المعرفة، أسس الشعالي الخراز المكتبة في عام 1958، وهي ثاني أقدم مكتبة في بنغازي بعد مكتبة بوقعيقيص، بمساعدة شقيقه المرحوم حسن الخراز (الذي استقل بعد ذلك وفتح مكتبة دار الكتاب الليبي في شارع العقيب)، وألحقها بمجموعة من الأكشاك في أماكن متفرقة من مدينة بنغازي، وقد عملت في الكشك المقابل لسينما النهضة والكشك المقام بميدان البلدية، وكان هناك كشك بجانب البريد الرئيسي بشارع عمر المختار، كان يدير المكتبة ذاك الوقت مفتاح حمزة وهو قريب لصاحب المكتبة، وكان يعاملني مثل أخوه الصغير نحضر له القهوة من قهوة، ونفطر مع بعض وعندما يغيب لأمر ما، أقوم مقامه حتى يرجع.
وإلى جانب بيع الجرائد والمجلات والكتب في المكتبة، كنت أقوم بمهمة أخرى وهي الذهاب إلى المجمع الحكومي حيث أحمل المجلات العربية لقسم رقابة المطبوعات لفحصها ثم إعادتها، كنا نبيع الصحف الليبية الصادرة في بنغازي مثل جريدة الحقيقة، التي شهدت رواجاً كبيراً خاصة مع بداية كتابة الصادق النيهوم مقالة أسبوعية فيها، إلى درجة أني شهدت عن قرب الطوابير التي كانت تقف منذ الساعة السادسة صباحاً من ناحية الباب الخلفي للمكتبة من شارع سنيدل من أجل الحصول على نسخة من العدد الثقافـي الأسبوعي لجريدة الحقيقة، وكانت هناك جرائد، الزمان والعمل والرقيب وبرقة الجديدة (الأمة) والبشائر وريبورتاج، ومجلات ليبيا الحديثة والمرأة، والكتب العربية من روايات وقصص وكتب في كافة المجالات والتي تأتي من القاهرة وبيروت، وكان هناك مخزن للكتب على بعد أمتار قصيرة من مكان المكتبة، أما المجلات فتأتي بالطائرة من مصر ولبنان وكان يقوم بهذه المهمة محمد التومي وهو اليد اليمنى لصاحب المكتبة، يذهب كل مرة للمطار لجلب المجلات مثل المصور وآخر ساعة وحواء والكواكب وصباح الخير وروز اليوسف، وميكي وسمير واللبنانية مثل الأسبوع العربي والحوادث والشبكة والصياد وسوبرمان والوطواط وكانت أسعار المجلات تتراوح مابين خمسة وعشرة قروش.
من حرصه على وصول المعرفة، أتذكر أثناء حرب أكتوبر عام 73، كان هناك حالة طوارئ في المطارات المصرية وتأخر وصول المطبوعات المصرية من مجلات وجرائد إلى بنغازي وكان الناس هنا في حاجة لمعرفة تفاصيل معركة العبور، أتذكر أن الشعالي الخراز قام بإحضار هذه المطبوعات من مصر عن طريق البر بالشاحنات التي وصلت إلى مقر المكتبة في شارع سنيدل.
وزع الشعالي نشاطه الثقافي إلى الفني وتملك عدد من السينمات بمدينة بنغازي، منها سينما الحمراء بمنطقة سيدي حسين وسينما النصر بالفندق البلدي، وسينما الفردوس بمنطقة المحيشي، وكنا نحن العاملين في المكتبة وأكشاك توزيع الصحف لنا الأحقية في الدخول مجاناً لهذه السينمات.
في مكتبة الشعالي الخراز، شهدت عن قرب طوابير محترمة عرفها سكان هذه المدينة كانت من أجل شراء العدد الثقافـي الأسبوعي لجريدة الحقيقة، فكان القراء يقفون أمام مكتبة الوحدة العربية للأستاذ الشعالي الخراز بشارع عمرو بن العاص منذ السادسة صباحاً لاقتناء جريدة الحقيقة، لمتابعة كتابها المشهورين أمثال الصادق النيهوم وخليفة الفاخري ومحمد الشلطامي وأنيس السنفاز.
واستمر الشعالي الخراز في نشاطه المعرفي والفني حتى تم تأميم النشاط التجاري العام ومنه المكتبات والسينمات، وآلت ملكية مكتبة الوحدة العربية إلى إدارة الصحافة والنشر، والسينمات إلى إدارة الخيالة.
بقلم: عبد السلام الزغيبي