
ولد الأديب الليبي خليفة الفاخري في بنغازي عام 1942، وسط أهوال الحرب العالمية الثانية، وتعرّض المدينة للقصف المتبادل بين قوات المحور والحلفاء آنذاك.
ويعتبر الفاخري من كتّاب ما بعد الحرب الكونية الثانية، ومن الكتّاب الليبيين القلّة المقلين في كتاباتهم، كالمكسيكي خوان رولفو، فهو طوال مشواره الأدبي، لم يصدر إلا ثلاثة كتب فقط هي: "موسم الحكايات– غربة النهر– بيع الريح للمراكب".
وكل هذه الكتب لاقت نجاحاً كبيراً لدى القراء، لقيمتها الفنية العالية، وللمواضيع التي احتوتها من قصص وحكايات ومقالات أدبية تلامس يومياتنا وتستشرف المستقبل بموضوعية وعمق.
عندما مرض فجأة ودخل مستشفى "بوردوشمو" وسط بنغازي، كتاّبًا كثيرين ومعجبين بكتاباته كانوا يقفون مع باقات الورد أمام المستشفى مستفسرين عن حالته، منتظرين الإذن بالدخول فور خروجه من العناية الفائقة.
يقول الناقد منصور بوشناف عن تجربة الفاخري: "هو أحد مطوري النثر الليبي الحديث، وقد شكل وزميله الصادق النيهوم طليعة أدباً جديداً في مدينة بنغازي وكل ليبيا، واستطاعا حقاً خلق تيار أدبي أكثر انفتاحاً على أدب العالم".
وعن طبيعة نصوصه ومواضيعها يضيف بوشناف قائلاً: "ظل الفاخري لصيقاً في أدبه بالمواطن البسيط وهمومه، وأعطى لتلك المعاناة أبعاداً إنسانية عميقة جعلته جزءاً من ملحمة معاناة الإنسان وصراعه من أجل وجود أفضل.
قدم الفاخري للأدب الليبي لوناً جديداً هو "فن الحكاية" متكئاً على ميراث هائل من حكايات الجدّات الليبيات، واستطاع وعبر نثره البديع أن يجعل تلك الحكايات تفيض بالألفة والحميمية، لتظل طازجة في كل وقت ولكل قارئ".
الكتاب الذي قد لا يخلو من أي بيت ليبيّ به مكتبة هو كتاب خليفة الفاخري "موسم الحكايات" حيث يوصف بالكتاب الشامل لإحتوائه على الحكاية والقصة وأيضاً النقد واليوميات والترجمة، ويشبهه بعض النقاد الليبيين بكتب الجاحظ وغيره من أدباء العربية القدامى.
ونمت تجربة الفاخري من خلال كتبه الثلاثة والكتاب الرابع الذي صدر بعد وفاته واحتوى على بعض من سيرته الذاتية، أوسيرة المدينة التي نهضت من دمار الحرب، لتتحول إلى دولة تنمو ثم تتلاشى تدريجياً.
انخرط في حفظ القرآن الكريم على يد فقيه من مراكش في جامع الحدادة، الجامع مقابل مكتبة (بوقعيقيص) التي كلما غادر الخلوة استوقفته كتبها بعناوينها الملونة الجميلة، لم يكن في وسعه أن يشتري أي كتاب، وقد أدرك صاحب المكتبة ذلك فدله على المركز الثقافي المصري فبدأ يستعير منه الكتب، وقد لفتت عناوين الكتب الفاخري إلى فن الخط العربي، أُخذ به وشرع في محاولات دائبة لأن يكون خطه جميلاً إلى أن أصبح الوحيد في الجامع الذي يخط ويرسم (الختمة) التي كانت بمثابة شهادة تُمنح للطلبة.
أما عن عائلته فكانت عائلة الفاخري - مثل أغلب العائلات - بالكاد تعيش الكفاف، مما اضطره إلى ترك المدرسة مبكراً والعمل موظفاً في (نظارة المعارف) سنة 1958، ثم إنتقل إلى وظائف عديدة كان آخرها مستشاراً ثقافياً في وزارة الخارجية التي أحالته على التقاعد سنة 1988.
وعن تحصيله العلمي فقد درس الفاخري اللغة الإنجليزية في المركز الثقافي البريطاني في بنغازي خمس سنوات، إنتقل بعدها سنة 1970 إلى إنجلترا لاستكمال دراسته على نفقته الخاصة، إذ درس اللغة وكذلك الأدب الإنجليزي.
كما تميز الفاخري في جانب أدبي مهم، وهو أدب المراسلات، خاصة رسائله المتبادلة مع الصادق النيهوم، حيث كان الفاخري في بنغازي والنيهوم في أوروبا، والتي جمعها الكاتب محمد عقيلة العمامي وهو من أصدقاء الفاخري المقربين لمدة ثلاثين سنة تقريباً، وأصدرها في كتاب بعنوان: "قطعان الكلمات المضيئة" نقتطف منه هذه السطور:
يكتب الصادق النيهوم إلى خليفة الفاخري: "أردتُ أن أجعل كلماتي تضيء، وقد أعطيتها مهلة كاملة، لأنني ظننت أن الحروف مثل ثمار الشماري، تحتاج إلى وقت لكي تنضج، وعندما قرأت مرة أن الكلمات تتغذى على التجارب، هرعت كالمجنون أجوب الأرض والأحداث وأبحث عن التجارب".
ورد خليفة الفاخري بالقول: "الجري خلف قطعان الكلمات شاق وطويل ودائب، إنه عذاب متصل يحفر قلبك طوال الوقت، ويدعك تتعامل مع النار، مثل أحد الحواة من دون أن تلتقط أنفاسك، أو تنعم بلحظة رضاء مدى العمر".
ورغم أن لغة الفاخري والنيهوم متقاربة جداً، وذات جرس وإيقاع واحد، وأيضاً ثمة تشابه في المواضيع التي يتطرقون إليها بطريقة ساخرة تهكمية، وكذلك انتمائهما معاً إلى أيقونة "أنظر خلفك غاضباً" التي ظهرت من خلال مسرحية تدين الحرب والماضي والعنف بعيد الحرب العالمية الثانية، إلا أن الإختلاف بينهما نلمسه واضحاً، في طريقة التناول لأي موضوع، حيث يغلب على النيهوم دائماً الجانب النقدي والجدلي المشعل للحرائق والمكوّن للإرباك لدى القارئ، بينما يجنح الفاخري للبساطة والعمق معتمداً على لغته، التي ينحتها بشكل جيد، ويوظفها بطريقة محكمة لا تشتت فيما تذهب إليه من دلالات.
يقول الكاتب والخطاط حسام الثني عن تجربة الفاخري خاصة من ناحية اللغة، حيث يجمعه بالفاخري كتابة القصة وأيضا فن الخط: "قلق الفاخري الفني ونزوعُه المضاد لتأصيل الجنس الأدبي، قاده إلى كتابة النص التخيلي السردي المفتوح على فضاء لُغوي شعري، ليس من حيث الشدة والكثافة والحركة والميل إلى الرمز ورفض الواقعية التقليدية فحسب، بل أيضاً من حيث الوظيفة اللغوية الإنفعالية التي توظف الدلالة الإيحائية للكلمات، وهو في نظري أحد الرواد المهمين الذين انتحوا هذا المسلك مبكراً في السرد العربي الحديث، في وقت اعتمد فيه أغلب قصاصي جيل الستينيات على المرجعية بوصفها الوظيفة اللغوية للسرد والحوار والوصف وعلى الدلالة المباشرة لمطابقة الكلمات وعلى ضميري الغائب والمتكلم والزمن الماضي للحكي.
ويتحدث الثني أيضاً عن الجانب الفكري في نصوص الفاخري فيقول: "أما بشأن السياق الفكري فالملمح الظاهر في تجربة الفاخري هو الرغبة الملحة في الإستشراف والتبَصّر المستقبلي، مع رغبة خفية في نقد الثوابت والمطالبة بإعادة قراءة التراث الإسلامي بحياد، كل هذا جعل فعل الكتابة عند الفاخري عملاً شاقاً يستنزف وقتاً ويقتضي طاقة تأملية عالية واشتغالاً لغوياً مرهقاً للنسج واختيار الصيغة الأكثر دقة ودهشة من بين التباديل اللانهائية لكل عبارة، هذا المذهب أثر سلباً على إنتاجه من الناحية الكميّة، لكنه في المقابل أعطى دفعة إيجابية عالية من حيث النوع وجودة اللغة".
أعوام مرت على رحيله يوم 2001.06.06، ومازال الفاخري هو الكاتب المشع والمقروء، خاصة من القراء الذين يعشقون الأمكنة، ففي كتاباته تتجلى بنغازي الستينيات والسبعينيات والثمانينيات أيضاً، لقد كان يكتب الحياة كما يعيشها الناس، وكما يعيشها هو، شخصياتها معروفة، وحتى عندما عمل في كوبنهاجن، كانت بنغازي معه، في كلماته، كانت هي الروح التي تمده بالحبر، وبملح الكتابة الذي بدونه تتحول الكلمات إلى هراء.
المصدر: محمد الأصفر