مقال

اللثامة - سلة فواكه وخضار بنغازي

أسس الإغريق مدينة (هيوسبريدس) وهي مدينة بنغازي الحالية التي استمدت اسمها الأول من حدائق هيوسبريدس الأسطورية، واحتلت حيزاً هاماً في الميثولوجيا الإغريقية، واعتبرت في التاريخ القديم من عجائب الدنيا، وألهبت خيال الشعراء والمؤرخين الذين نسجوا الكثير من الأساطير حولها وحول البحيرة التي كانت آلهة الجمال فينوس Venus تسبح فيها، و(هيوسبريدس) تعني حدائق التفاح الذهبي، وقد أُنشئت في 525 ق.م، فوق مرتفع من الأرض التي تعرف باسم (مقبرة سيدي عبيد) ومع مرور الزمن نمت وامتدت نحو الجنوب الشرقي بجوار بحيرة السلمانى وهي المنطقة المقابلة لمقبرة سيدي عبيد، ومن المعروف أن هذه المدينة قد بنيت عند الطرف الشمالي في المنطقة الممتدة الآن من اللثامة وحتى السلماني مرورا بمنطقة الزريرعية، (وهي إحدى المدن الإغريقية الخمس التي أسست في شرق ليبيا (قوريني، باركي، طلميثة، توخيرة وهيسبريدس).

اللثامة منطقة صغيرة كانت تقع خارج أسوار مدينة بنغازي من الجهة الشرقية الشمالية، حيث كان مدخل المدينة "فم السور" (مفترق السبيتار الكبير مستشفى الجمهورية الآن)، الباب الذي كان يفصل منطقة الصابري عن مدينة بنغازي القديمة، وكان على الطريق في نهاية سور (السبيتار الكبير) أمام جامع الموتى، كان فم السور به ثلاث فتحات، فتحة كبيرة في المنتصف لمرور العربات (الكاروات والكراريس)، وفتحتان جانبيتان لمرور الأشخاص، وكان فم السور يفتح في الصباح ويغلق عند حلول وقت المغرب.

كانت المدينة القديمة تمتد من مستشفى الجمهورية وحتى ميدان الشجرة جنوباً ومن شاطئ البحر شمالاً حيث الميناء البحري حتى جزيرة جامع بوخشيم الآن ما بين سوق احداش وسيدي خريبيش.

عند دخولك مدينة بنغازي من الساحل الشرقي للمدينة، وانت في طريقك إلى وسط المدينة تظهر لك منطقة صغيرة كثيفة بأشجار النخيل، ويخيل إليك للوهلة الأولى بأنك أمام إحدى مناطق مدينة مصراتة، وتعد اللثامة عبر تاريخها من المناطق الزراعية المتميزة بجودة منتوجاتها الزراعية خاصة الخضروات والفواكه، وعرف عن منطقة اللثامة الجميلة المكسوة بالرمال البيضاء ومنذ زمن بعيد جداً وحتى فترات قريبة كانت سلة خضروات بنغازي، حيث كانت تمد مدينة بنغازي بجميع أنواع الخضروات في مختلف العهود التي مرت بها المدينة الباسلة، ولم ينقطع هذا العطاء إلا في الآونة الاخيرة، خاصة بعد أن توسعت النهضة الزراعية وتواصلت حركتها في كل أرجاء مدن الوطن الحبيب في ستينيات القرن الماضي إنطلاقاً من اللثامة، وكانت من أكثر ضواحي بنغازي إزدحاماً بالسكان، لكنها اليوم أصبحت مكباً لرمي نفايات المدينة، بعدما توسعت الزراعة في كل أنحاء ليبيا.

تمر على أزقة وشوارع اللثامة، والزريريعية (دكاكين حميد) وسوق احداش، أحياء سكنية مكتظة تعتبر جزءاً من حي الصابري الكبير الآن، والذي يعرف لدى سكان بنغازي باسم (عرجون الفل).

تعد اللثامة اليوم إحدى أعرق مناطق مدينة بنغازي السكنية، تاريخها موغل في القدم، سجلت يومياته العديد من الأحداث، لعل أهمها عندما طاب لإحدى باشاوات الإمبراطورية العثمانية وتعرف باسم (فاطمة بنت لاغا) بتشييد قصرها في اللثامة والإقامة فيها، حيث سكنت منطقة المنستيرا قبل حوالي 400 عام.

و(فاطمة بنت لاغا) هي إمرأة حكمت المدينة أثناء العهد العثماني الأول، وشيدت سجناً لمعارضيها في شارع الحشر بوسط المدينة القديمة (البلاد)، ولهذا السبب عرف هذا الشارع بهذا الاسم، هذا الشارع الذي شهد تأسيس نادي الهلال الرياضي الثقافي الاجتماعي في أحد البيوت وهو بيت الراحل مصطفى بوستة رحمه الله.

كذلك من بين الأشياء التي كانت توجد في منطقة اللثامة معسكر خاص بجيش الإحتلال الإيطالي، وكان مكانه على البحر، مكان معسكر الصواريخ فيما بعد، كان هذا المعسكر مكاناً لتجمع المقاتلين الأحباش الذين كانوا يقاتلون ضمن صفوف قوات جيش الإحتلال الإيطالي، في ذات الوقت كان المعسكر نقطة لتجميع الليبيين لأخذهم عنوة إلى الحبشة للقتال ضمن صفوف قوات جيش الإحتلال الإيطالي.

لازلت أذكر تلك الليلة العاصفة والماطرة من شتاء عام 1981م، في تلك الليلة جنحت سفينة تجارية قادمة من بنما على شاطئ اللثامة، كانت تنتظر دورها للدخول إلى رصيف ميناء بنغازي البحري، وأحدث جنوحها فوضى كبيرة في المنطقة تلك الليلة. وبقيت هذه السفينة جانحة على شط البحر حتى نهاية عام 2007م، وما تبقى منها تم تقطيعه عن طريق إحدى شركات الخردة، وقد سلبت هذه السفينة المنكوبة أرواح الكثير من الشباب الذين كانوا يحاولون القفز منها إلى البحر.

يرجع سبب تسمية اللثامة بهذا الاسم إلى (اللثام) وهو الغطاء الذي يوضع على الرأس لإخفائه نظراً لموقع القرية القريب جداً من مركز مدينة بنغازي والخفي عن الأنظار وراء النخيل والأشجار المطوقة للقرية.

لا توجد بها كثافة سكانية مرتفعة كما باقي مناطق وأحياء بنغازي، وجل الأسر المقيمة في المنطقة ذات عراقة فيها ولا يزال عدد كبير منها يعيش في اللثامة حتى يومنا هذا، ولا يمكنهم استبدالها أو الإبتعاد عنها بأي حال من الأحوال (هكذا يقول معظم سكانها)، حتى في أزمة بنغازي الأخيرة لم يغادرها سكانها بالرغم من أنها كانت في مرمى نيران الأطراف المتصارعة.

لجأ إليها سكان المدينة (البلاد) عند إندلاع الحرب العالمية الثانية والتي دار جزء كبير منها على الأراضي الليبية هرباً من الغارات الجوية وعند إنتهاء الحرب عام 1943م عاد سكان المدينة إلى بيوتهم التي لم تتضرر كما تضررت في أزمة المدينة الأخيرة التي شهدت صراعاً دامياً بين أبنائها لأغراض وتوجهات مختلفة.

من العائلات العريقة التي سكنت اللثامة منذ فترة طويلة عائلة بن شتوان، عائلة بالرحيم، عائلة الدالي، عائلة الخضر، عائلة الشيباني، عائلة بودبوس، عائلة بالناصر، عائلة المنقوش، عائلة الشريف، عائلة الفلاح، عائلة الدنيني، عائلة بشورة، عائلة الزهواقي، عائلة المجيبري، عائلة زطاطة، عائلة الطراح.

من أماكن العبادة القديمة في اللثامة جامع الشيباني الذي شيده أحد سكان اللثامة ويدعى مصطفى الشيباني وسجل في هيئة الأوقاف باسم جامع الرحمة ثم جامع عمر بن عبدالعزيز.

توجد في اللثامة الزاوية العيساوية والزاوية العروسية للمدائح النبوية خاصة في أيام الإحتفالات بالمولد النبوي الشريف، زاوية الشيخ محمود بن ناصر شيخ زاوية الفواتير والتي تعرف بزاوية سيدي محمود بن ناصر وزاوية سيدي عبدالعزيز الدنيني، في اللثامة عاش وتوفي فيها سيدي حمد المنقار ودفن عند العلوة بالقرب من شاطئ المنقار.

ومن المدارس مدرسة علي زوبي (مدرسة اللثامة الإعدادية) التي تعتبر أول مدرسة افتتحت في اللثامة وكانت وقتها في بيت كبير تملكه عائلة الشريف تبرعت به ليكون مدرسة، وأطلق اسم الأستاذ علي زوبي وهو من أوائل المعلمين بها، حامل لكتاب الله ومن طلبة الشيخ الصفراني، وكان رحمه الله صاحب مواهب متعددة في حياته، مدرسة الوحدة العربية الإعدادية للبنات التي كانت مديرتها المربية الفاضلة الأستاذة فاطمة احشاد، مدرسة المنتصر، مركز التلمذة الصناعية ومن ثم المركز المتوسط للحاسوب، المعهد العالي لتقنيات الحاسوب، مؤسسة التعهدات التموينية التي كانت متكفلة بتموين الشركات والحقول النفطية، وكانت تعرف بمعسكرات براعم وأشبال وسواعد الفاتح التي تأسست في مدرسة المنتصر سنة 1981م، ثم انتقلت إلى هذا المقر سنة 1982م.

من المراكز الخدمية باللثامة عيادة اللثامة التخصصية العامة التي تقدم خدماتها للمواطنين مجاناً، مصرف الوحدة، إضافة لنادي نجوم الصابري الرياضي الذي يقع ضمن نطاق اللثامة، ونادي الفروسية، سوق الخشب المعروف، وسوق بيع السيارات المستعملة في فترة ما بعد الظهيرة، وسوق الجمعة الشعبي الذي يجتمع فيه الباعة صباح كل يوم جمعة وحتى موعد صلاة الجمعة من كل أسبوع، ورشة الصيانة ووحدة الكسح ومحطة 7 للصرف الصحي.

من بين الأماكن المميزة في منطقة اللثامة (المنستيرا) والتي تقع على الطرف الشرقي من اللثامة وتعد جزءاً مهماً منها، اشتهرت بمياهها العذبة التي لا تبعد كثيراً عن سطح الأرض، عين ماء نقية كانت في فترات سابقة تمد المدينة (البلاد) بمياه الشرب وخاصة خلال الحرب العالمية الثانية والسنوات التي تلتها، وهي المكان الذي يغذي مدينة بنغازي بالخضار والفواكه، بل فنذق الخضار والفواكه الرئيسي كان أغلب منتجاته الزراعية من المنستيرا، كانت مكاناً يباع فيه مشروب (اللاقبي) المعروف، وتشتهر برمالها البيضاء وشاطئ البحر المعروف لدى كل سكان بنغازي.

واللثامة التي تطل على شاطئ البحر، ترمز إلى الشاطئ وهدير البحر وصوت تلاطم الأمواج على الشاطئ وكل أهل بنغازي وخاصة الشباب يعرفون ما معنى شاطئ اللثامة وما يعرف بالمنقار الصغير والمنقار الكبير، وصالتوات البحر، وكلمة (صالتو) في اللهجة البنغازية تعني المكان المخصص للقفز للبحر من خلال حركات رياضية أو بهلوانية، فالكل صغار وكبار من الذين عاشوا بالقرب من البحر ولا يفصلهم عنه إلا رمال الشط تربوا على صيد السمك (الحوت) لأن معظمهم (حواته) ورياسة بحر، والكثير منهم كان فناناً في الغوص واستعمال بندقية صيد السمك (الفيزقة) ورمي (الجولاطينة) وهي نوع من المتفجرات المصنعة محلياً.

اللثامة حكاية شعبية من حكايات بنغازي الجميلة، بكل ما فيها من حب وود وبهجة وفرحة .. كان لدى سكان اللثامة وخاصة من الرجال والشباب خصوصية في مظهره، في لباس قبعة الرأس (الطاقية) ومشيته، تختلف عن رجال وشباب البلاد والبركة.

كادت اللثامة أن تحظى بتنفيذ مشروع البحيرات الشمالية The Nordic Lakes السياحي، وهو جزء من مشروع الشاطئ الشرقي لمدينة بنغازي، هذا المشروع الذي بدأ العمل فيه عام 1981م، ثم توقف العمل فيه وعاد العمل فيه من جديد عام 2007م، ويشمل المشروع حفر بحيرات في منطقة اللثامة وحفر أنهار بين البحيرات لربطها بالبحر وإنشاء فنادق ومقاهي وملاعب للجولف وصالة سينما عملاقة، وينفذ المشروع فوق أراضي منطقة اللثامة بالكامل، وكان المتوقع الإنتهاء من المشروع حوالي عام 2010م، لكن بعد إندلاع ثورة 17 فبراير من عام 2011م توقف العمل بهذا المشروع، وتعرضت العديد من أجهزة ومعدات المشروع للسرقة بعد أن غادرت الشركات المنفذة للمشروع.

اللثامة الآن من الأحياء السكنية العريقة في مدينة بنغازي حيث توجد اليوم شمال مركز المدينة، إذ تبعد عن مركز المدينة بحوالي 3كم، بعد التوسع والزحف العمراني، منطقة تاريخية زراعية وبحرية سبخية، يحدها من الشمال البحر ومن الشرق منطقة بودزيرة ومن الجنوب البحيرات الشمالية، ومن الغرب منطقة الزريريعية (دكاكين حميد)، وتتبع إدارياً منطقة الصابري، وتنقسم اللثامة إلى:

1.اللثامة الغربية.

2. اللثامة الشرقية.

3.المنستيرا.

4.المنقار.

بقلم: فرج غيث