
بعد هدم مبنى مستشفى (الجماهيرية) سابقاً والذي كان معروفاً لدى الناس باسم (السبيتار الكبير).. ظهر للعيان ماتبقى من سور مدينة بنغازي..
كان هذا الجزء من السور القديم يقع داخل مبنى المستشفى محجوباً عن الأنظار مختفياً خلف سور المستشفى.. ناهيك عن إهمال معالم مدينة بنغازي أثناء النظام السابق وهدم ما تبقى منها.. لذلك ظل تاريخه مجهولاً بالنسبة للأجيال الحاضرة التي لم تشهد حقبة الإحتلال الإيطالي ولم تسمع عنه من الآباء الذين عاصروه..
والحكاية تبدأ من أكتوبر عام 1911 عندما هاجم الأسطول البحري الإيطالي مدينة بنغازي ونزل جنوده في منطقة جليانة وخرج أهالي المدينة يساندهم القادمون من سكان الضواحي واشتبكوا مع القوات الغازية في معركة (جليانة).. كان يوماً مشهوداً دار فيه القتال بالبنادق والسلاح الأبيض من الصباح حتى المساء.. وسالت الدماء حتى تغير لون أكوام الملح في سبخة جليانة إلى اللون الأحمر..
دخل الغزاة.. سيطروا على المدينة الصغيرة ذات البيوت الطينية.. وبدأوا يفرضون سلطاتهم.. ومع بداية عام 1912 طوقوا المدينة بالأسلاك الشائكة منعاً لتواصل الأهالي مع المجاهدين.. وأقاموا التحصينات الدفاعية..
في العام ذاته 1912بدأ سلاح المهندسين الإيطاليين في تشييد سور حول المدينة.. إرتفاعه أربعة أمتار ونصف.. وطوله 3600 متر وعرض حائطه 80 سم.. يتخلله 13 مركزاً دفاعياً صغيراً وقلعتان صغيرتان دفاعيتان مزودتان بمدافع رشاشة.. واحدة في منطقة جليانة والأخرى في منطقة الصابري.. وبالسور خمس بوابات حديدية كبيرة للدخول والخروج من المدينة هي: بوابة جليانة ــ بوابة البركة ــ بوابة الجمالين ــ بوابة الصابري ــ بوابة البحر.. وفقا لما ذكره الصحفي الإيطالي (تيجاني) في كتابه (بنغازي في العقد الثاني من القرن العشرين) الذي ترجمه المرحوم د. رؤوف بن عامر..
تفتح السلطات هذه البوابات الحديدية صباحاً ليمر منها السكان المحليين والقادمين وكذلك العربات التي تجرها الخيول والحمير.. ويتم تفتيش الداخلين والخارجين من البوابات.. وفي المساء مع حلول وقت الغروب تغلق البوابات وتتوقف الحركة.
كانت بوابة الصابري التي تعرف ب (فم السور) أكثر البوابات في حركة مرور الداخلين والخارجين.. خارج هذه البوابة تقع مناطق الصابري ودكاكين حميد والزريريعية واللثامة.. وبجانبها يقع المصلى الخاص بالموتى حيث تمر الجنائز متجهة إلى مقبرة (سيدي عبيد) وقبل دفن الميت تقام عليه صلاة الجنازة في ذلك المصلى الوارد ذكره في إحدى الأغاني الشعبية المشهورة (ودعناك عدي بالسلامة) التي غناها الفنان المرحوم فتحي السور وتقول كلماتها:
ودعته وعدى
في فم السور قدام المصلى
والسواق عطه مايسله
دعوة خير ما فيها ندامة
ودعناك عدي بالسلامة
لم يتبق من هذا السور إلا الجزء الذي اتضح للعيان بعد هدم مستشفى (الجماهيرية) سابقاً.. إضافة إلى جزء آخر صغير خلف سوق الخضار (الفندق البلدي) قرب موقع مصنع شفيق للأردية.. وكل من يتأمل الواجهة الخلفية للسوق (المقابلة لدار الكتب الوطنية) سيرى هذا الجزء من السور واضحاً بتفاصيله.. فهل ستحافظ بلدية بنغازي ومصلحة الآثارعلى هذا المعلم الذي بلغ عمره الزمني 107 أعوام.. وكان شاهداً على حقبة إستعمارية من تاريخ البلاد؟.. وهل سيشهد هذا السور أعمال صيانة وترميم؟.. وهل سيتم رصف الساحة المقابلة له وعمل لوحة من المرمر عليها نبذة تاريخية عن السور وتاريخ بنائه واعتباره أثراً تاريخياً سياحياً أسوة بالشعوب والدول التي تهتم بتاريخها؟