
في الحروب الكبيرة التي "تسيل فيها الدماء"، و"ينتشر الخراب"، ثمة قصص إنسانية لا يلتفت إليها أحد، تظل حبيسة القلوب والذاكرة، وتحتاج إلى أزمنة كي يكتب فوقها أحد سطراً من هنا، أو صورة من هناك، وفي الحرب الليبية من الممكن أن تظهر آلاف القصص الإنسانية، التي ستظل تُحكى لسنوات عديدة تأتي من بعد.
قصة "ريتا" على محاور الدم في بنغازي كان لابد من توثيقها، حتى تصل قصص "الوفاء الحقيقي" إلى البشر، فريتا "كلبة صغيرة" ضلت طريقها لتضيع بعيداً عن المكان الذي ألفته منذ ولادتها، فما أن لحظها أحد الجنود "تائهة" و"مُتعثرة" و"جائعة" عند مفترق السليني في بنغازي، حتى رق قلبه لها، فأخذها معه إلى نقطة التجمع العسكرية للعناصر، الذين كانوا قد عادوا للتو إلى ثكنتهم من مهام قتالية شاقة.
ريتا أخذت حصتها من طعام المقاتلين، الذين أصروا إصراراً لافتاً على أن تكون حصة ريتا من الطعام موزعة بينهم تماماً، لأنهم جميعاً يريدون أن يحتفون بريتا، فيما أصبحت ريتا ترافق صاحبها الذي عثر عليها، وجميع رفاقه مثل ظلهم، لا تأكل إلا إذا أكلوا، ولا تنام إلا عندما يأوي "أهل الخير والحق" إلى فراشهم.
صارت رينا تُدرّب نفسها على أن تعيش "حياة قاسية"، كحياة من أقسم على تراب ليبيا أن تعود حرة، كما كانت عبر التاريخ، إذ أصبحت ترافقهم إلى محاور القتال، وتفعل كما يفعلون تماما، فإذا اشتد وطيس المعارك، ولجأ المقاتلون إلى الاحتماء من "الرصاص الحي"، كانت تختار شيئاً للاحتماء به، لم تكن تتركهم أبداً، فهي ذهبت معهم إلى مناطق عديدة، وعديدة، لكنها لم تأنس سوى لمكان لقيت فيه دفئاً ورقة وعطفاً.
وفي اليوم الذي لا فرار منه، استشهد من حمل ريتا إلى "المظلة الإنسانية"، ومن قدمها إلى رفاقه لتقتسم معهم كل أسباب الحياة، لكن ريتا مارست طقوس حزن غريبة على "صاحبها الوفي"، فحزنت أكثر من رفاقه المقاتلين، الذين سرعان ما انشغلوا بمعارك جديدة من أجل ليبيا وأهلها، لكن المفارقة المرصودة هنا هي أن لا ريتا تخلت عن الرفاق الباقين ولم يلحقوا ببارئهم بعد على درب النصر الليبي، ولا الرفاق قرروا التخلي عنها.
وحتى لحظة كتابة هذا التقرير لا تزال ريتا تتقدم محاور الدم الطاهر" و"الشجاعة الاستثنائية"، وتمشي ساعات طويلة بمعية رجال قرروا أن يستعيدوا تراب ليبيا، أو أن تعيدهم ليبيا إليه ليرووا بدمائهم "أعظم القصص"، وكيف تصبح ليبيا أغلى من الدم والولد.
بقلم: خديجة العمامي