
بنغازي التي نعرفها كانت مدينة حاضنة وليست طاردة، حاضنة للجميع دون إستثناء، احتضنت الوافدين إليها من كل القبائل وكل المناطق، وكل من أراد الرزق ، أو الدراسة، لم تكن تطلب شهادة حسن سير وسلوك من أحد، كل من عاش فيها، شيئاً، فشيئاً، يتطبع بطبائع أهلها، لا أحد يتباهى بأصله، أو بحسبه، أو بنسبه، بجاهه أو سلطانه،أو مركزه.
كان الجار يسأل عن جاره، يحترمه، يقدره، يرعاه، يتفقد أحواله وأحوال أسرته في غيابه، يساعده،إن احتاج ويوسع عليه بما أعطاه الله.
كل واحد فيهم سند وعون حقيقي للآخر، يحزن لحزنه ويفرح لفرحه .. تسكن البيت الواحد أكثر من عائلة، كل عائلة من قبيلة مختلفة، ومنطقة أو مدينة أو قرية مختلفة، ولكنهم في الأصل عائلة واحدة وقلب واحد، ولا يفصل بين البيوت إلا الشرشاف.
كان الكل سواسية، لا ترى اختلافات كبيرة في الملبس والمأكل .. درسوا في نفس المدارس، وتعلموا القرآن على يد فقيه الحي، ولعبوا في نفس الشوارع، ذهبوا لنفس السينمات وملاعب الكرة والمسارح، وأماكن الترفيه.
كلهم كانوا أكثر من (خوت)، لاتجد مصطلح غرباوي أو شرقاوي .. مصراتي أو عقوري، ورفلي،أو تاجوري، جازوي، أو جبالي، كلهم سواسية والحب يجمعهم.
لم نكن نعرف أن هذا الشخص ينتمي إلى قبيلة كذا أو كذا، لم نكن نسأل أصلاً عن هذا، وأعرف أصدقاء المدرسة، وأقران في الشارع، ولم يخطر لي إلى هذه اللحظة أن أسألهم من أي قبيلة هم فذلك لا يهمني أصلاً ولو عرفت، ما غير ذاك في الأمر شيئاً، يهمني أن أعرف اسمه، لكي أناديه به، واسم عائلته إذا تطلب الأمر.
ثم جاءت ظاهرة القبلية والمناطقية، والجهوية، التي انحسرت في العهد الملكي، ثم ترعرعت وتضخمت في عهد القذافي، لتغرس البغضاء والعداوة والكراهية والتشاحن، والعصبيات الجاهلية، والتي من شأنها أن تزرع بذور الفتنة بين أبناء المدينة الواحدة، وتضعف الانتماء الوطني.
في هذه الأيام والأجواء مشحونة في المدينة، إزداد سعير هذه الظاهرة المشينة، يقودها أصحاب أقلام مشبوهة، وانجر وراءهم، للأسف وبغباء كثيرون، فساعدوا في تأجيج نيران الكراهية والعداوة والفرقة.
في هذا الوقت ينبغي أن نكون أحرص من أي وقت مضى، على ترسيخ قيم المحبة والتآخي بين أبناء المدينة الواحدة، لا نتيح الفرصة لمن يصطادون في الماء العكر.
فلنبتعد عن كل ما من شأنه أن يفرق الناس ويعمق البغضاء بينهم، ولنرجع إلى الأيام الخوالي والزمن الجميل.
بقلم: عبد السلام الزغيبي