
سجلت ريشة هذا الفنان الكبير جميع عادات وتقاليد المجتمع الليبي من خلال لوحات فنية تبرز هذه العادات بأدق تفاصيلها وخصوصيتها بطريقة مذهلة لم يسبقه إليها أحد من قبل، ولم يتكرر هذا كمنهج فني قائم بذاته.
حتى في عصر النهضة الأوروبية جسد عمالقة الفن من أمثال روفائيل ورمبراند وكارفاجو أعمالهم الفنية من خلال توجهاتهم الدينية الكنائسية في تلك الحقبة ولم يتطرقوا إلى المناحي الحياتية الأخرى كمنهج لهم إلا من خلال أعمال منفردة .
كل لوحة تعتبر قصة قائمة بذاتها .. إزدحمت رسوماته بالعيون تشعرك بالحركة في كل الإتجاهات كأنها تحكي لك ألف حكاية وحكاية، ينتابك الإحساس كأنك تعيش بداخلها الإحساس بالفرح والبرد وبالحر والضوضاء بل تكاد تشم رائحة الكعك والخبز في لوحة الكوشة وتكاد تحدد الزمن من خلال إنحدار الشمس على جدران الأزقة القديمة في فصل الخريف، فلوحاته تحكي حياة مجتمع بطقوسه الجميلة وأحيائه الشعبية ومحبته وقيمه الأخلاقية.
رسوماته تشحن ذاكرة المتلقي وخاصة من الأجيال الصاعدة والقادمة بتفاصيل الحياة الليبية الشعبية البديعة بطريقة لا يمكن التعرف عليها إلا من خلال هذه الرسومات التي تدل على ذهن متقد يمتص كل ملامح الحياة بمقدرة فائقة تَنمُ عن ذاكرة فذة حبلى بمرئيات حياتنا الإجتماعية في مختلف صورها الجميلة، هذا المبدع إستطاع بما يمتلكه من إحترافية فائقة أن يسبر غور موروثاتنا الجميلة وحياتنا النبيلة الخالية من كل تصنع وتكلف.
رسم هذا الفنان منذ طفولته مئات الصور على إمتداد أكثر من ثمانبن عاما، وأقام له أول معرض في بنغازي سنة 1946، كما أقام عدة معارض في الخارج في فييَنّا بالنمسا وكذلك في عواصم بعض الدول .. إيطاليا وفرنسا وبريطانيا ومن الدول العربية سوريا والخليج والمغرب، فنان معروف ومشهور عند متتبعي الفن على المستوى العربي والعالمي ومصنف عالمياً ضمن مؤسسة اليونيسكو، ولوحاته موجودة في أغلب أماكن أوروبا وأمريكا والدول العربية ولديه قاعدة كبيرة من المعجبين والرسامين الموهوبين الذين يسيرون على خطى منهجه ومدرسته.
ولكن حقبة القذافي أثرت فيه، بدون شك، مثلما أثرت في كافة جوانب النهضة الليبية من حيث تعريف الأجيال الصاعدة بهذا الفنان الكبير أو من حيث الإستنارة من هذه الموهبة الفذة وإتاحة المعارض والفرص له وتبني الدولة كل هذا، بل لحقه الضرر عند فقدانه لمرسمه فتحول المرسم إلى طريق يشق المدينة إلى نصفين وضياع كثير من النماذج والمقتنيات الثمينة، وبعد رفضه عندما طلب منه رسم لوحة تمثل وجه القذافي قرر السفر إلى بريطانيا، حيث أقام هناك لأكثر من إثني عشر عاماً.
والشيء الذي لا يعرفه الكثير أنه في فترة تواجده خارج الوطن جسد الفنان عوض عبيدة ملحمة جهاد ومعارك كفاح الشعب الليبي ضد الطليان في عدد إثني وعشرين لوحة، نفائس فنية نادرة تنبهر لها الأبصار وتحير لها العقول يقف الإنسان أمامها في حالة من الإنبهار الكلي والإعجاب الشديد.
وبهذا يعتبر الفنان عوض عبيدة مؤرخاً ومُؤرشفاً وموثقاً للتراث الليبي ولجهاد وكفاح الشعب الليبي ضد الإيطاليين محافظاً على هذا التراث من الإندثار، هذا العمل الفني الجبار الذي صنعه الفنان عوض عبيدة لم يتسنى لأحد من كبار الرسامين عبر العصور التاريخية الفنية الإتيان بمثله كمنهج خاص بأي فنان.
قدم لوطنه من خلال مجاله ما لم يقدم، خلد تراث هذا الشعب العظيم وسيرة كفاحه في موسوعة فنية مصورة تعلم الأجيال التي لم تعش هذه الحقبة التاريخية بتراثهم وعاداتهم وكفاح أجدادهم، كما أضاف عوض عبيدة إلى كنوز ليبيا كنزاً لا يفنى وسيبقى خالداً خلود أثارنا العظيمة.
أصبحت لوحاته مزاراً فنياً يقصده الزوار من كل حدب وصوب سواء من أبناء البلاد الذين يعشقون تراثهم أو كثير من الأجانب المولعين بإسلوبه الفني وإنتشرت إبداعاته في أنحاء كثيرة وعديدة.
ضمن خضم الكثير من المذاهب الفنية المتعددة سواء الكلاسيكية أو الرومانسية أو التجريدية أو التكعيبية جذبه تيار المدرسة الواقعية وأسس مذهبه الخاص به من خلال هذا الإتجاه وأصبحت له مدرسة فنية قائمة بذاتها خاصة به يسير على منوالها الكثير من عشاق هذا التيار.
كان رحمه الله كثير القراءة وعلى إطلاع واسع بمختلف العلوم والمعلومات الحياتية والكونية .. إسلامه مستنير .. سريع البديهة .. حاضر النكته .. خفيف الظل .. متسامح مع الغير إلى أبعد الحدود .. معطاء بدون مقابل .. جلساته لا تمل، يرى في محبة المحيطين له معين لا ينضب.
أناقته وقيافته المستديمة ووقاره خلقت حوله هالة من المهابة والإحترام العجيب، لديه العديد من الهوايات الإحترافية مثل الرسم الكريكاتيري والرسم بالرصاص والتعبير بالظلال والتصوير الفتوغرافي، يعشق سماع الموسيقى الكلاسيكية لفترات طويلة دون ملل موسيقى شتراوس .. بيتهوفن .. باخ .. موزارت.
أقام معرضاً في المملكة المغربية سنة 1994، إنبهر الملك الحسن الثاني بما شاهد من أعمال فنية، طلب مقابلته شخصياً وقدم له عروض مغرية للإقامة في المغرب وتدوين الثراث المغربي بالرسم ..فأبى إلا أن يعود إلى وطنه ليكرس نفسه لخدمة البلاد، قلده الملك الحسن وسام الفن الرفيع.
يمقت الفنان عوض عبيدة أسلوب المتاجرة والإرتزاق من خلال رسوماته فإنه يراها كأبنائه لأنه خلال مرحلة إنجازها يعيش حالة من الإنصهار والخلق لخروج هذا العمل إلى حيز الوجود.
تعكس لوحات الرسام عوض عبيدة الحالة الإجتماعية الإقتصادية والثقافية والسياسية من الفترة الواقعة بين 1946 - 1951 بل إمتد هذا الأثر إلى الستينات من القرن المنصرم، فأطلقوا لها العنان .. فكّوا عنها الرهان .. إجعلوها تعانق الجدران .. لأنها ترسم السعادة على قلوبكم والبسمة على شفاهكم وترجعكم إلى عبق الزمان والمكان.
ولد الفنان عوض عبيدة في 1923.10.23 بمدينة بنغازي وإنتقل إلى رحمة الله تعالى في 2013.02.08 ببنغازي.
المصدر: فردوس عبيدة