وجه من وجوه بنغازي

عبد المولى دغمان

عبد المولى دغمان

ولد عبد المولى دغمان في حي سيدي حسين بمدينة بنغازي سنة 1930م عندما كانت المدينة وغيرها من مدن ليبية تعاني من وطأة احتلال الفاشست فكانت عائلته فقيرة كسائر الناس في تلك الحقبة التي عانت من الفقر والعوز تحت نير الاستعمار الفاشستي بكل ما تعنيه الكلمة من قسوة ووحشية. فأخبرني أنه كان يذهب للمدرسة متستراً بخرق بالية، حافي الرجلين، مرتدياً قبعة بيضاء رثة، عنواناً لإسلامه وعروبته، ولا يدري عندما يرجع لبيتهم هل من قوت في انتظاره ليسد رمقه أم لا.
تلقى تعليمه الأولي في المدارس الإيطالية والعربية. كانت أول سنة يلتحق فيها بالفصل الدراسي تلك السنة التي زار فيها بنيتو موسليني ليبيا عام 1937م. وبمجرد أن حصل على الثانوية من حلوان بمصر سنة 1952م التحق للدراسة في كلية الآداب بجامعة القاهرة وتحصل على ليسانس في الآداب منها. وتوسعت مداركه في أرض الكنانة، واستخدم جميع أدوات المعرفة المتوفرة من مشاهدة وملاحظة وقراءة وتلقٍ. ورجع إلى أرض الوطن، ولكن أدرك المسؤولون أنهم أمام شابٍ كفء وطموح، فبعثوه على الفور إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليزداد علماً وخبرة، والتحق بجامعة بوستن ما بين 57-1960م لينال الماجستير، متخصصاً في علم الاجتماع وعلم دراسات المجتمعات البدائية، وبذلك يكون من أوائل، إن لم يكن أول، من تخصص في هذا المجال على مستوى ليبيا.

عاد مسرعاً مجدداً إلى أرض الوطن ليحمل شيئاً من العبء الذي حمله كل من كانت فيه أهلية وكفاءة. فعين على الفور محاضراً بالجامعة الليبية ببنغازي عام 1961م، واستمر في تنمية نفسه ونهل من مناهل العلم والمعرفة، وفي نظري المتواضع أنه من قلائل الناس الذين ألـمّوا بفقه القراءة والمطالعة بعين المتفحص المتربص بالأهواء والميول، وكان ذلك جلياً في حديثه معي، ودائماً ما كان يذكرني بالقول المأثور بأنه "لا ينال العلم مستحٍ أو متكبر"، وبهذه العقلية مضى هذا الرجل العصامي. وكان ذلك جلياً لطلابه وزملائه والمسؤولين، واستمر في الصعود، وارتقى معارج الرقي والسمو، إذ كان ذلك أمراً ينتظره. فأوكلت إليه وظيفة عميد كلية الآداب والتربية سنة 1963م، وكان ذلك المنصب حساساً، وعمره حينها لم يتجاوز 33 عاماً. ولكنه لم يمكث في هذا المنصب لحاجة الوزارة له، فانتدبته وزارة التربية والتعليم وكيلاً لها حتى عام 1964م. وأصبح واضحاً للعيان بأن الوزارات بدأت تتجاذب هذا الشاب الجاد الطموح، فنقلته وزارة البترول عام 1964م وكيلاً لها لمقدرته الإدارية وخبرته في التعامل مع الأجانب، وكذلك لتمكنه من التحدث بالإنجليزية بتدفق ومهارة. وفي تلك الآونة كانت الشركات الأمريكية والإنجليزية تتقاتل في صحراء ليبيا للفوز بالعقود والامتيازات النفطية في بدايات اكتشاف النفط في ليبيا.

فكان رجل حزم نزيه، صاحب لب ومبدأ وموقف، ولكن حبه للعلم وأهله جره مرة أخرى إلى قاعات التدريس وأرفف المكتبات، فعين وكيلاً لوزارة المعارف ثم عين عميداً لكلية الآداب سنة 1965م. وفي 4 يونيو من عام 1967م عين رئيساً للجامعة الليبية متسلماً هذه المهمة الصعبة من الأستاذ المؤرخ مصطفى عبد الله ابعيو حتى عام 1969م. فشمر الأستاذ عبد المولى عن سواعده وعمل بهمة وأمانة، وأحبه الناس لإخلاصه وصراحته التي تصل أحياناً لدرجة الإحراج، وكان هذا في بوتقة الأدب الجم والتواضع العالي. وكانت رؤيته وتصوره لأية جامعة ناجحة وعصرية تتركب من ثلاثة عناصر لا يمكن الفصل بينها بأي حال وهي الجامعة المعطاءة: تتكون من المعلم والطالب والمكتبة.

وبهذه الفلسفة شرع في جلب أحسن الأساتذة العرب والأجانب - بالإعارة أو التعاقد - إلى ليبيا، وشراء أنفس الكتب والدوريات سواءً أكانت قديمة أم حديثة، لتمكين الطالب من الاطلاع على ما أنتجته حضارة الإنسان أينما كان. وكان رحمه الله ينصح الطالب بالمطالعة والكتابة، ومن يرى فيهم النباهة يُبعثون إلى الخارج للدراسة والتحصيل العلمي واعداً إياهم بالمراكز المرموقة مع الإجلال والتقدير لكي ننهض بهذا الوطن الذي عانى الكثير. أمضى بقية عمره مترجماً وقارئاً، ثم ركن إلى الهدوء في مزرعته يناجي الأشجار والزهور بعيداً عن تقلبات الحياة، يبادل من يأتيه الزيارة الحديث والحوار البناء. وكان بطبيعته مثقفاً ثقافة عالية، باللغتين العربية والإنجليزية، مستخدماً عقله الناقد في فهم الحياة وتفحص ما يطرح عليه، وإذا ما رأى نظيره على صواب كان يقر له برأيه ولا يجد في نفسه غضاضة من قول: أحسنتم.

كان يتمتع بصفاء في المزاج، وشفافية في روحٍ جذابة، وكنت أحب مجالسته كثيراً لأستفيد من خبرته وتفسيره لأحداث تاريخية مر بها أجدادنا وآباؤنا، ولم يبد يوماً ما كللاً أو مللاً، بل كان يرحب بي غاية الترحيب، فلمست منه دفء الوالد، وصدق المعلم النصوح في الطرح. وكذلك التدقيق والإلمام بحال البادية والحضر .. والعلاقات الدولية وتاريخ الأمة الإسلامية .. وجهاد أجدادنا وشعرهم .. ومن العجب العجاب عندما تنكشف سوءتى وأتحدث أمامه كان يصغي إليّ باهتمام وكأن لسان حاله يقول: كلما ازددت علماً زادني علماً بجهلي.

المصدر: د. فرج نجم